المادة    
وما سبق تقديم بين يدي موضوع معاملة الأئمة في الصلاة، وما يتعلق بالصلاة خلف مجهول الحال أو المستور، أو خلف المبتدع وما يتعلق بذلك من أحكام، فقدم له -أيضاً- بتقدمة تدل على فقهه وحكمته رحمه الله، وهي أن الفرقة أو الطائفة التي عندها هذا أصل وهو عدم حضور الجمعة والجماعات هي الرافضة، وليس أحد من أهل السنة يرضى أن يشابههم، أو أن ينتسب إليهم، أو أن يكون مثلهم في أي شيء .
وهؤلاء الرافضة -بمناسبة ذكرهم- شبهتهم في ترك الجمعة والجماعات، أن هذه العبادات لا تصح إلا خلف الإمام الحق الوصي، ولما كان الأئمة موجودين كانوا مستضعفين، ولم يكونوا حاكمين ولا ظاهرين، فمن بعد الحسن رضي الله تعالى عنه ما بقي لهم إمام ظاهر موجود، يحكم الأمة، فلما اختفى الإمام في السرداب ولم يوجد للأمة إمام إذاً تترك الأمة الجمعة والجماعة والأعياد حتى يظهر الإمام، فربطوا هذه العبادات -كشأنهم في أكثر عباداتهم- بوجود الإمام المعصوم، الذي هو الوصي الذي تم اختياره وترشيحه، أو خلافته، وإمامته من الله -كما يزعمون- ولهذا فصلاة الجمعة عند الرافضة إنما استحبها بعض أئمتهم، وقال بعضهم: إنما تصلي من أجل المصلحة حتى يجتمع الناس فقط، ولكن لا يدينون الله تعالى بها على أنها فرض عين، كما يفعل أهل السنة والجماعة.
  1. الصلاة خلف المستور

    والمقصود بقوله: '' فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة، ولا فجور، صُلِّي خلفه باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين''.
    ثم أوضح ذلك فقال: ''ولم يقل أحدٌ من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره'' أما الخوارج فإنهم كانوا يمتحنون الناس حتى إنهم يتلقونهم في الطرقات، فإذا لقوا أحداً امتحنوه: ما تقول في كذا؟ ما تقول في كذا؟ فإن أعلن الولاء والبراء على حسب عقيدتهم وإلا قتل أو عوقب بأي عقاب.
    ولما سيطرت المعتزلة أيضاً في دولة المأمون كانوا يمتحنون الناس؛ فامتحنوا العلماء والقضاة بل والعامة، حتى كانوا لا يعقدون لرجل على امرأة، إلا إذا أقر بأن القرآن مخلوق!! وهذا امتحان .
    فهذا ليس من أصول أهل السنة والجماعة على الإطلاق، وكما قال رحمه الله: أنه لم يقل أحد من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره بحيث إنك تعلم أنه من أهل السنة في الباطن، بل هذا خلاف القاعدة، والأصل هو أن من كان من أهل السنة في الظاهر فهو منهم في الباطن، ولم نؤمر بأن نشق عن قلوب الناس.
  2. الصلاة خلف المبتدع

    يقول: ''بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي -الإمام- بدعة أو فجور، وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره'' هنا العبارة مرتبكة، والمقصود منها أنه إذا كان هناك إمام يظهر منه بدعة وفجور، وأمكن للمأموم أن يؤدي الصلاة خلف غيره: '' فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم'' أي: إذا كان الإمام مبتدعاً أو فاسقاً أو ظهر منه فجور، وأنت في بلد السنة فيه ظاهرة فتستطيع أن تدع هذا المبتدع وتصلي خلف السني، أو تدع هذا الفاجر وتصلي خلف التقي -وكل ذلك بالظاهر، والسرائر توكل وترجع إلى الله- فحكم الإنسان الذي يتهاون في هذا الأمر ويصلي خلف هذا المبتدع أو خلف هذا الفاجر أن صلاته صحيحة عند أكثر أهل العلم.
    وكلامنا هنا هو في صحة الصلاة أو بطلانها، وليس في مسألة الوقوع في الإثم، فإن الذي يترك الصلاة خلف التقي أو السني مع إمكانها فإنه آثم، ولم يذكره لأنه معلوم، ولذا نقول له: لا تصل خلف المبتدع، أما ما وقع فهو صحيح مع إثمه، لتفريطه في ترك الصلاة خلف من يمكن أن يصلي خلفه ممن هو بريء من هذا.
    ثم يقول: ''هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وأما -وهذه الحالة الأخرى- إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى'' هذا لو كان في بلد وليس فيه إلا جمعة واحدة والإمام فاجر أو مبتدع، قال: ''فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة '' فلا يتركها، بل يصلي خلفه، ولا تعني الصلاة خلفه الثناء عليه، بل لا تعني إقراره، بل لا تعني عدم المطالبة بتغييره، لكن المقصود الآن هو: هل يترك الجمعة والجماعة أم يصلي خلفه؟ ومع ذلك فيجب على أهل السنة أن يغيروا هذه البدعة، وأن يغيروا هذا المنكر، وأن يتعاونوا على إزالته ما أمكن، وسوف نفصل -إن شاء الله- أنواع البلاد عندما نتحدث بعد قليل.
    ثم يقول: ''وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد ومالك وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم، وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب ألا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله، ولم يقل أحمد إنه لا تصح الصلاة إلا خلف من أعرف حاله'' .
    فمثلاً: هناك إنسان تعرفه أنه من أهل السنة، وآخر تعرف حاله أنه من أهل البدعة، وهناك إنسان مستور لا تعرف حاله، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة.
    فهذا المستور قلنا: بالاتفاق تصح الصلاة خلفه، وأيضاً من يعلم أنه من أهل السنة فبالاتفاق تصح الصلاة خلفه، بل على استحباب أو وجوب ذلك، بحسب الظروف والأحوال، أما هذا الذي يعرف أنه مبتدع، فهذا الذي فيه التفصيل:
    فالإمام أحمد رحمه الله استحب لمن سأله ألا يصلي إلا خلف من يعرف حاله، ولكن هذا في حالة كثرة الأهواء والضلالات، فهو يحثه على أن يتحرى في ذلك، وهذه المسألة منقولة عن الإمام أحمد رحمه الله على سبيل الاستحباب، ومعنى ذلك أن الصلاة لا تبطل.
  3. مذهب المرازقة

    وهنا نأتي إلى قضية تاريخية، وهو أن بعض الناس كانوا يرون أن الصلاة لا تصح، وهي الطائفة المسماة بـالمرازقة، وهي في الحقيقة فرقة صوفية، لكن كانت قريبة إلى السنة، وهم أتباع أبي عمرو بن مرزوق، وهذه الطائفة لها ذكر في التأريخ، حيث كان أبو عمرو عثمان بن مرزوق من الدعاة، ومربٍ من المربين، جمع حوله أتباعاً كثيرين، وكان يعيش في ظل الدولة الباطنية التي تسمى الفاطمية -على كفرها وضلالها- فكان لا بد للدعاة والعلماء أن يجمعوا الناس حولهم، ليبقى لـأهل السنة وجود وشوكة وقوة، فوجد مثل هؤلاء الدعاة الذي جمعوا حولهم بعض الأتباع، ومنهم أبو عمرو عثمان بن مرزوق وكان مشهوراً بالصلاح والعبادة عند الناس، فاجتمع حوله كثير من الناس، على ما في منهجه من خلل وتصوف.
    والمهم أنهم اجتمعوا فكأن أبا عمرو بن مرزوق استند إلى ما نقل عن الإمام أحمد في هذا الشأن، وهو التحري خلف من يصلى خلفه، فرأى أنهم يعيشون في ظل دولة باطنية زنادقة ملاحدة، فماذا حصل؟
    يقول: ''ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع؛ وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع، وظهرت في الديار المصرية، أمر أصحابه ألا يصلوا إلا خلف من يعرفونه'' .
    فقال لهم: انتبهوا، هؤلاء باطنية، وأئمتهم باطنية.
    وكانوا -عياذاً بالله- يقولون: من لعن وسب؛ فله كيلة وإردب، أي أنهم كانوا يتعبدون بشتم ولعن الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وكانوا من فوق المنابر يلعنون، فقالوا: كيف نصلي خلف إمام يلعن أبا بكر وعمر؟! مع أنه قد لا يلعنهم أو قد يلعنهم تقية لأن الدولة فرضت ذلك عليهم، وهذه من الفتن -نعوذ بالله- كما يقولون: فتنة عمياء، فقال لهم: لا تصلوا إلا خلف من تعرفون عقيدته، وأنه بريء من هذه البدعة، ومن هذه الضلالات.
    يقول: شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: ''ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للـرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر'' .
    لكن مع ذلك بقيت طائفة المرازقة على القاعدة أيام الشيخ .
    وهذه مشكلة كثير من الدعوات الإسلامية مع الأسف الشديد، فما يؤصله الشيخ يبقون عليه، مع أنه قد تغيرت الأحوال وتطورت من خير إلى شر، أو من شر إلى خير، فـالمرازقة بقوا على كلام الشيخ أنهم لا يصلون حتى يعرفوا عقيدة من يصلون خلفه، بل قد يمتحنونه: ما رأيك في الصفات؟ وما رأيك في القدر؟ وما رأيك في الشيخ أبي عمرو بن مرزوق؟ وما رأيك في كذا؟ حتى يتأكدوا أن عقيدته موافقة لعقيدتهم، وسلوكه موافق لسلوكهم؛ فيصلون خلفه، فصارت بدعة منسوبة إلى السنة وإلى الإمام أحمد.
    فـشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقول: الحال اختلف، فقد كان الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق أيام غلبة الباطنية الملاحدة، فلما ذهبت دولتهم وجاءت دولة السنة أيام صلاح الدين وألغى لعن الشيخين وسبهما، وظهرت شعائر السنة، انتفى ذلك الأمر، فلم يعد لهم مبرر.